-->

المفارقة النفسيّة في الشخصّية الرئيسة في رواية غانية من كوم بكير للروائي مصطفى عوض إبراهيم رسول

 

المفارقة النفسيّة في الشخصّية الرئيسة في رواية غانية من كوم بكير للروائي مصطفى عوض


 

إبراهيم رسول

  

التقنيةُ التي كُتبت بها هذه الرواية, هي طريقة الحكي المصري الشعبي أو سرديات الحكاية المحلية, الغارقة بمحلّيتها, وهذه ميزةٌ واضحةٌ في كلِّ الرواية, إنَّها تُعيد لنا سرديات نجيب محفوظ, وأماكنه السرديّة القلعة, الجمالية, الحارة المصرية القديمة, القهوة البلدي, من هذا الرجوع, نقلَ نجيب محفوظ القاهرة القديمة إلى العالم الواسع والرّحب, وفي هذه الرواية يأخذنا الحكّاء المصري مصطفى عوض إلى التاريخ المصري والهوّية المصرية الشعبية. الرواية الصادرة عن دار المفكر العربي في سنة 2021 بطبعتها الأولى, تحكي قصةً شعبيةً, إلا أنَّها تتكئُ على سرديةٍ مُبهرة, فأنت لا تجدُ الملل في حكايةٍ تأخذك إلى عوالم قديمة أو في تاريخ يعود إلى حوالي عقودٍ قليلة, وهذه العوالم مسرودة بلسانِ شخوصها, الروائيّ أحالنا إلى الماضي وأخبرنا بتلك الحوادث  بنفسٍ طويلٍ من الحكي, فأسلوب الكاتب, يجذبك من لحظة الأرخنة التي يستهلُ الرواية فيها, الأرخنة في الرواية لا تعبأ بالحادثة بقدرِ الحكاية السرديّة في تلك الحادثة, نحن نُساير الشخصّية ونتفاعلُ معها تفاعلاً أكثر مما نتفاعل مع الحادثة التاريخية, يكمنُ السببُ  في متعة ورُوحيّة الفن التي نجدها في صراعِ الشخصية وتفاعلها مع الأحداث الواقعيّة أو المُتخيلة. وَعَنونَا القراءة النقديّة التي نرومُ قراءتُها في هذه الروايةِ بعنوانٍ مُستوحى من الرواية أو من ثيمةٍ فيها, ونقصد بالمفارقة غير معناها الشائع المعروف, بل نقصد بها , الفرق بين الأمرين, أو النزعتين.

تتبعنا أثر الشخصية الرّئيسة ( أنيسة), فوجدناها تتحلّى بهذه المفارقة بين واقعها أو يوميّاتها وبين عالمها الجوّاني, فهي ابنة ضابطٍ انجليزيٍ, أحب إمرأة مصرية, فتزوجها بعد أن أعلن إسلامه على الملأ, وأقامَ في مصرَ بعض الوقت في أيامٍ كانت الحرب مستعرة إبان الحرب العالمية الأولى, على الرغمِ من أنَّه ضابطٌ إنجليزيٌّ إلا أن المصريين أحبُوه وقرّبوهُ, هذا الضابط قد تركَ زوجته ( أم أنيسة) الحامل في  أنيسة, وذهب في مأموريةٍ للحرب, وقبل أن يذهبَ أودع زوجته عند أهالي المنطقة وأشهدهم على كلِّ شيء, وذهبَ ولكن إلى نارِ الحرب التي تُزهق الأرواح ولا تشبع من التهام البشر ولا يكاد يسلم من الحرب بشر, قُتل دون أن يرى ابنته الوحيدة, بقيت أم أنيّسة تندِبُ حظها, وعاشت بما أبقاهُ لها من أموالٍ وبيتٍ كالقصر, إلا أنّ كلّ شيء سيؤول إلى نهاية , والأموالُ إن لم تُستثمر فإنّها ستنتهي حتى لو كانت كثيرة.   لجأت أم أنيسة إلى عملٍ تعيش منه, فكان البغي والدعارة هو الوسيلة لجني المال, إلا أن المفارقة في شخصية أم أنيسة, أنَّها لم تُضاجع رجلاً قط! كأنّها حافظةٌ لسرِ الحب والعلاقة بين زوجها! وهذه المفارقة انعكست على حياة أنيسة أيضاً و على الرغمِ من  أنَّها تملكُ بيتاً للدعارة إلا أنَّها لم تُقرب رجلاً إلى جسمها أو قلبها, ففي هذه الحكاية لغزٌ يبعثُ على التأمل في الرسائل التي تُرسلها شخصية الأم, وهذه الرسائل, هي إيجابيّةٌ, فهي تعني فيما تعنيه, الحفاظُ على رابطة الحب والوفاء للحبيب جسداً وقلباً وروحاً, وهذا ما فعلته أم أنيسة, كانت أم أنيسة وفيةً لزوجها, حاضراً وغائباً, حيّاً وميتاً.

أما شخصيّة أنيّسة فهي النموذجُ الذي اتخذناهُ في المفارقة بين السلوكيّن أو التناقض بين الحدثين, هذا التناقضُ قد تجلّى في جملةٍ واضحةٍ وردت في صفحة 49 : كان عنبر أنيسة, ليس عنبر أنس وفرفشة فحسب, بل كان عنبر علم وموسيقى ورقص أيضاً على عكس ما كان سارياً في باقي العنابر المجاورة التي لا هم فيها سوى الجنس والمال, ولكن عنبر أنيسة, كان به جنس أمتع ومال أكثر وثقافة وعلم لا أنفع لها, تُمتع وتَتَمتع هي بما تتعلمه, فقد كان هناك جدول لعملائها يحفظونه ولا يطغون عليه والكل يعرف المطلوب منه وما سيقوم به أثناء وقته الذي يمتد لليوم بأكمله, طالما سيفي بشبق أنيسة ليس الجنسي ولكن شبقها المعرفي, فهذا ستتعلم منه لغته وثقافته ووصفه لبلده, وذاك ستتعلم كيف تفكر وكيف تقرأ ولمن تقرأ... في هذا النص تتجلى هذه المفارقة, فالشخصية ليس بائعة هوىً فحسب , بل إنّها على درجةٍ عالية من الثقافة والوعي والمعرفة, فهي لا يهمها الشبع الجنسي بقدر الشبع المعرفي الذي تشترطه على الزبون الذي يمارس معها العلاقة الحميمة التي تستمر ليومٍ كاملٍ, فيه لذةٌ تتجلى في الجنس وفيه معرفة تتجلى بالعلم والثقافة.

أن يجتمعَ النقيضين في وقتٍ وشخصٍ واحدٍ, فهذا يدعو للتأملِ في هذه الشخصية, وكيف يكون هذا الاجتماع دون أن يؤثرَ أو يُحدث تأثيراً ما؟

الحقيقةُ أنَّ نزوع الغانية أنيّسة، كان نزوعاً يميلُ إلى العقلانية أكثر من الطيش، فهي عقلانيّة حتى في البغاءِ الذي تُمارسهُ مع الزبائن! وهذه إشارة إلى تناقض في السلوك الشخصي للشخصية.

هذه البنت ولّدت بظروف غير الظروف التي كانت مُهيأة لها، فهي بنت الضابط الإنجليزي الذي أحب أمها وتزوجها عن حبٍ، ولولا وفاته في الحرب العالمية الأولى لما كان حال أنيسة وأمها كحالها اليوم، طبيعيٌ أن تعبث الحياة كل هذا العبث مع بنت و إمرأة لا سندَ لهما، المتتبعُ لسيرة أحداث الرواية، سيجدُ أن الكاتب أدخلنا إلى سياسات دول عظمى كفرنسا وألمانيا عبر سردية غير مباشرة، مما جعل صفة الحكاية يستمر دون استهلاك أو حرق لأحداثها، ندخلُ في معمعة الحرب العالمية دون أن نُشعر، ويأخذنا السارد إلى تلك السنوات التي كانت دموية بامتياز، التساؤل، أيهما الأهم والمهم أو أيهما الأصل أو الفرع، حكاية أنيسة أم سردية الحرب العالمية؟

الجواب يقودنا إلى افتراض سيحل هذه الجدلية، وهو لو أنهينا إحداهما كيف ستكون الرواية بمجملها؟ الواقعُ أنها ستشتت وتضيع هويتها.

فلو تأملت في قضية سفر أنيسة إلى دول الغرب، ستجد أنها تريد أن تسترجع ولدي الخواجة شكور التاجر المصري اليهودي، الذي أرسل ولده وبنته إلى ألمانيا ليكملا التعليم هناك، ولكن الحرب قامت وضاع نبأهما عن والدهما، فقررت أنيسة كنوع من رد الجميل أو مكافئة الخواجة هو أن تذهب وتسترجع ابنه وبنته، كانت الخطة هي أن تكون جاسوسة.

شخصية أنيسة، أهتم السارد بها كثيراً، فهي تقلبت بأدوارٍ شتّى، وتقلبت بأطوارٍ متقلّبة، حتى ليصعُب على المتلقي، أن يستجمع تناقضات هذه الشخصية.

رسمَ لنا الروائي، شخصيّة أنيسة، على أنّها شخصية مثقفة، ومنفتحة، ولها اهتمامات في الموسيقى، لكن هذه الثقافة تناقضت مع سلوكها وجريمتها التي اقترفتها، وهي عندما قتلت الجندي بعد سلسلةٍ من الاغراءات ومداعبة الجندي جنسياً حتى سرَ مُخدر الاغراء لكل حواسه، فسقط فيما سقط فيه أغلب الرجال، وفجأة تستلُ دبوس الشعر المسموم، الذي وضعته في شعرها، لتغرزه في جلد رقبة الجندي ليسقط قتيلاً!

هذا المثالُ يتناقض وشخصّيتها المثقفة أو الهادئة، فهي المغلوب على أمرها، لذا، ففي البداية كانت شخصيتها تختلف عما آلت إليه، كأنّ حملها سبب هذا الضعف الذي سيطر عليها، فقد كانت تشترط على الزبون شروطاً حتى يقضي معه يومه وليله، تحولت إلى مأمورةٍ تُنفذ ما يُراد منها، هنا ندخل في متاهة من صراع الشخصية مع ذاتها، فالشخصية لم تستقر ولم تثبتْ على سلوكٍ واحدٍ ثابتٍ، فهذا التغيّر، تناسب مع التفاعلات التي فرضتها الأحداث المتطورة في مسيرة السرد، فهي يجب أن تُسايرَ قوة الحدث، وتتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً، فالساردُ كان مُتمكناً من مُسايرةِ هذه التناقضات، فهو قد ترك لأنيسة الحرية غير المطلقة في فرض رؤاها إزاء تطور الحدث الروائي، وهذه ميزةٌ تُحسب للرواية. السردُ تقلّب بحسبِ نزوع أنيسة النفسيّ.

 

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: