ميلاد حرية
في احدى ليالي الشتاء القارس عاد الاب متاخرا كعادته منهكا من التعب ، بعد عمل يوم شاق وقد تورمت أصابع يديه من شدة البرد ...
كانت زوجته قد نامت بعد ان طال انتظارها ... كم عارضت عمله المضني الذي حرمها وجوده الدائم معها ومع الابناء ... لكن ماذا عليه ان يفعل وهو الذي يكدح من اجل الانفاق عليهم والاستعداد للمولودة التي ينتظرها ... حرم من مواصلة دراسته وهو النابغة من سلالة عرفت بذكاءها في جهته ... طرد بسبب أراء والده فلم يجد سوى العمل اليومي الشاق لتامين مستقبل مجهول ... ولو فرط في عمله ذاك لبقي جميعهم في العراء او ربما انفصل عن زوجته بسبب اهلها الذين عارضوا زواجها منه ...تسلل الاب الى فراشه رغم انه يتضور جوعا، اذ انه لم ياكل كن الصباح ...لعل الدفئ في هذه الساعة المتأخرة ووضع رأسه على الوسادة ينسيه زغردة عصافير بطنه ... املا الراحة ليتمكن من النهوض باكرا ...غير انه سمع هاتفا يناديه : ابي ... ابي ...رفع الغطاء ... لا احد ... من بالخارج ... الابناء نيام سيراهم صباحا ... «ولكن هناء صوتا ناداني...»اعاد الغطاء على وجهه لعله خيل له الصوت ... عاد الصوت من جديد يناديه: « ابي .. ابي ..انا هنا بجانبك»ذعر الاب واهتزت فرائصه فهو على يقين أن زوجته فقط حذوه يكاد شخيرها يهز الغطاء ويخترق الجدران ... لقد انهكها الحمل والقيام بشؤون البيت والابناء ... وهو يحدث نفسه «ربما فعل بي التعب فعلته اليوم وجعلني على غير عادتي انام بسرعة واتخيل اشياء غير موجودة»استدار نحو زوجته فاذا بالصوت منبعثا من بطنها وهو يقول « أنا حرية أبي ... قريبا سارى النور وتحتضنني ... » قال الاب متعجبا « حرية ابنتي !! » ارتفع الصوت قليلا : « نعم ابي انا حرية ابنتك المرتقبة ... انا اخترت اسمي ... لا تخبر به احدا ...حتى امي لن تصدقك ... يوم ميلادي فقط اخبر الجميع به ...»ازداد الاب التصاقا بجسد زوجته وهو يتمتم « جنين يتكلم !! لا شك اني احلم !! هذا أمر عجاب ، لقد ولى زمن المعجزات ...يا الله ... انا احلم ... احلم ...»سمعت حرية تلك التمتمات فارادت أن تهدأ من روع الاب المذهول « لست تحلم ابي إنها الحقيقة ... أنا حرية مولودتك المرتقبة ... حرية التي طالما حلمت بولادتها ... الم تكن تحدث والدتي عني وأنا لا زلت نطفة ... كنت تتحدث عن الهمة العالية والحماسة والشجاعة التي باتت مفقودة في زمن الدكتاتورية ... دكتاتورية كبلت وكممت الافواه ... دكتاتورية عاثت في البلاد فساد ... كنت أبي اتغذى على وقع كلماتك التي تخامر روحك الأبية وأعيش مع إحساسك وحبك للكرامة وسعيك للارتقاء بالإنسانية ...اتذكر ماذا كنت تقول أبي؟»هنا استفاق الاب وكأنه في غيبوبة قائلا بحزن عميق « لا يا عزيزتي حرية ... لم انسى شيئا . »اردت حرية وكأنها تشارك أباها أحاسيسه الجياشة « كنت تقول ومع كل كلمة تنهيدة تخرج من اعماقك تهزني ... متى يأتي ميلاد حرية ... متى يرفع عنا الاذلال والضيم والقمع والقهر وننعم بك حرية ... توضأ الجلادون بدماء شعبهم ... قتلوا احلامهم ... قيدوا وكمموا افواههم بطشا وظلما وعنجهية ... »هنا تدخل الاب قائلا : « مهلا ، مهلا حرية أثرت آلامي واحزاني» والعرق يتصصب منه رغم برودة الطقس « لقد ذكرتني بايام عجاف » واجهش بالبكاء لقد أشعلت في وجدانه حرية فتيلا من الذكريات الحزينة وهاهي نبوءة والده الذي أخذه زبانية الظلم تكاد تتحقق .. وأن ولادة حرية بات قريبا ... قريبا ...حينا شعر بدفئ يتسلل الى كامل جسده وهو يقول : «هانت عزيزتي حرية ...المخاض وشيك ...سترين النور ...دعيني انام وللحديث بقية عزيزتي حرية...»
اترك تعليقا:
