قصة قصيرة
لقاء
كان صديقًا، أو ربما لم يكن، عشنا معا سنوات وأيام، تعارفنا وتقاربنا وتباعدنا ثم عدنا لنلتقي، كان بيننا أكثر من لقاء، لم أعرفه كليا ولكنني في كل مرة كنت ألتقي بجزء منه ، حتى التقيته كاملا في آخر لقاء بيننا، كان أول لقاء في شبابه وقد كان مليئا بالحيوية والنشاط. كان ودودا معي، يكاد يقصي أشعة الشمس عن دربي إن هي حاصرت ظلي كي لا يرهق ظلي استلقائه على أسفلت الشارع، كان يمنحني من مودته ما أخاله بها أكثر من أخ وأوفى الأخلاء، حتى أنني لم أصدق أن هناك ثالثا المستحيلات، يغدق من كرم الثناء عليّ في كل محفل يذكر فيه اسمي، فكانت مذكراتي وكتبي تبيت عنده وتهجر أرفف مكتبتي، وثيابي تليق به أكثر مما كانت تليق بي، وكانت أمي تطهو الأطعمة التي يحبها في أوقات وجوده ببيتنا ليدرس معي، وأشرح له ما استصعبه وما خاصمه الفهم فيه، واصبح جيراننا يعدونه فردا من أفراد، أسرتنا، مرت سنوات الدراسة، وغادر البلاد إلى بلد عربي ، كان أبي سببا في تعاقده معه للعمل فيه، حيث كان صديق أبي القديم المهاجر إلى هذه البلد هو من أرسل له عقد العمل، ومرت سبع سنوات مثمرات، أثمرت في جسده لحما وشحما، وعلى وجهه شاربا، يطأه الصقر فلا يهتز، عاد من سفرته في أجازة صيفية والتقيته صدفة، في مقهى عام وكدت ألقي بنفسي في عناق يضم حنيني لأيامنا الغابرة، رحبت به الذكريات ما بيننا وتهللت على وجهي ابتسامات شبابنا، وكانت ايامنا الخوالي تتراقص حولنا،
ولكنه أشاح بوجهه عنها كلما مرت ذكرى التفت إلى حيث لا شيء، وكلما همت ليلة من ليالينا لمصافحته غض طرفه عنها وولى وجهه شطر التناسي، لم أقدم خطوة بعدما التفت عني، ولملمت ذكرياتي وأودعتها تنهيدة، زفرت بها خيبتي، لعلها تتطاير وتغادر ذاكرتي إلى الأبد، مرت أيام على هذا اللقاء، كنت قد ارتقيت في عملي إلى منصب سيادي هام، وذات صباح وأنا في عملي إذ بمدير مكتبي يدخل عليّ ببطاقة تعريف، ويخبرني بأن صاحبها في انتظار لقائي، تعجبت لهذه الصدف التي تجمعني به، سمحت له بالدخول، فإذا به يلملم الذكريات التي نثرتها بزفرتي ويجمع شتاتها، ليذكرني بأيام شبابنا، وأظهر لي انه لم يتعرف علي في لقائنا بالمقهى وأن الأيام غيرت ملامحي، لم أجعله يطل الحديث واستأذنته في اخباري بمبتغاه من زيارتي، وكانت له حاجة لدي فقضيتها ، وأتممت عملي كما ينبغي، وودعني على أن نعاود لقاءاتنا ونعيد أيامنا الخاليات، ودعته وكأنني أودع شخصًا لم أعرفه من قبل، ولكنه حاول مرارا محادثتي هاتفيا، ولكن لقاءنا الثاني كان يقف حائلا بيننا، وانقسم في عيني إلى ثلاثة أجزاء، كأنني أراه في مرآة مكسورة، مشظى الصورة، مبعثر الهوية، ما بين شاب يظهر الود لينال من مكتبتي ودروسي ما يريد، وبين كهل في لقاء المقهى منتفخ الأوداج يدعي التناسي، ثم لقائه الأخير الذي عاد إليه وده القديم يداعب وظيفتي لينال ما أستطيع تقديمه إليه من خدمات، ولكنني لا يمكنني أن اثأتعامل مع أصحاب الهوية المتشذرة، ولا أصحاب الشخصيات ثلاثية الأوجه، فأرسلت كل ما يخص أعماله إلى زميل آخر ، وأرسلت إليه هدية عبارة عن مرآة مكسورة لعله يرى فيها حقيقته.
اترك تعليقا:
