-->

"سيدة المصعد"بقلم / مدحت صلاح

 "سيدة المصعد"

إستيقظت من نومي في كسل وهدوء لأول مرة منذ فترة طويلة بعد أن انتقلت حديثا تاركا منزلي القديم الذى كان يبعد كثيرا عن مقر عملي وكنت أعاني الأمرين يوميا من الاستيقاظ مبكرا وزحام المواصلات منذ عدة سنوات من بعد انفصالي عن زوجتي والإقامة مع أمي حتى توفاها الله ولحقت بأبي حتى استطعت الانتقال إلي مسكن مناسب قريبا من عملي في وسط البلد حيث عمارات القاهرة الخديوية العريقة ذات الطابع المميز المحبب إلى نفسي ،حقا لم يكن المسكن يقع على شارع رئيسي بل أحد تلك الشوارع الجانبية ولكنه ايضا يمتاز بالهدوء ونفس الطراز المعماري والأهم يناسب إمكانياتي المادية.
انتهيت من طقوسي الصباحية واعداد قهوتي والاستعداد للخروج؛ ثم طلبت سيارة أجرة على الرغم أن المشوار قصير لكنه كان احد ايام الشتاء المطيرة، وعندما أغلقت باب المنزل خلفي تنسمت عبير عطر انثوي قديم كلاسيكي يفوح في ارجاء الدرج أتى برائحة الياسمين، ضغطت زر المصعد الأثري الذي هبط ثم ما لبث أن توقف في الطابق الاسفل مباشرة .
فُتح الباب لتدخل سيدة يسبقها عطرها الياسميني الذى شممته من قبل، شملتها بنظرة سريعة، كانت في بداية العقد الرابع من العمر، ذات جمال هادئ وشعر أسود فاحم ينسدل على كتفيها؛ يتناسب مع تايير اسود أنيق أتى مع حذاء ذو كعب عالي وحقيبة جلدية انيقة بنفس اللون، تتأبط اليد الاخري حافظة أوراق كبيرة مثل تلك التي يستعملها المهندسون أو الرسامون كانت وكأنها خرجت من فيلم أبيض وأسود من أفلام الستينات.
تراجعت قليلا لأفسح لها المكان ومحاولا ان ازيل جو التوتر حين لم تنبس ببنت شَفةٍ قلت:
- صباح الخير
وجلت قليلا ونظرت بدهشة استغربتها، وفجأة علا وجهها شبح ابتسامة وشعور بالراحة، صمتت قليلا تتفحصني ثم اجابت:
- صباح الخير
ثم أردفت في سرعة ،
هل تسكن معنا هنا أم أنك زائر؟
- نعم، انتقلت حديثا بالأمس فقط اسكن في الدور السادس شقة ( ٦٠٣)
- أهلا بك أنا اسكن في الشقة التي تحتك تماما الدور الخامس شقة ( ٥٠٣)
- آدم
- ماذا؟
- إسمي آدم
انتبهت إلى يدي الممدودة إليها مصافحا، فترددت لحظة ثم صافحتني قائلة:
- أنا ليلى
كان كفها رقيق ناعم ولكنه كان باردًا كالثلجِ.
توقف المصعد واتجهت سريعا إلى السيارة الاجرة ولكن لم اجدها، انتظرت قليلا ثم طلبت الرقم بغضب مفتعل:
- أين أنت؟
- حضرتك انا انتظرت اكثر من ربع الساعة ثم اضطررت لإلغاء الرحلة
- هذا لم يحدث انا لم اتغيب اكثر من دقائق معدودة بمجرد أن نزلت، هممت بالانفعال وعندها وقع نظري على ساعة معصمي وإذ بعقاربها تشير الى الثامنة والثلث كنت قد غادرت شقتي في تمام الثامنة!
......................
مَر يوم عادي من العمل الروتيني، ولأول مرة منذ سنوات خلت اصل إلى مسكني مبكرا وخاصة ساعة الذروة، وعند المصعد التقيت ليلي مرة اخرى، وبادرتني بابتسامة قائله:
- مساء الخير
- مساء النور،
ولم أجد ما أقوله فسألتها:
- حضرتك طالعه؟
ضحكت وفي ذكاء ردت:
- وهل هناك حل آخر نحن في الطابق الأرضي
ابتسمت ايضا وقد شعرت ببعض الحرج من بلاهتي ولكن أنقذني وصول المصعد، فأشرت لها بالدخول ومن ثم دخلت خلفها وسألتها:
- الطابق الخامس أليس كذلك
- نعم من فضلك، ثم أضافت لم تتأخر في عملك
- نعم، عادة كنت أنصرف في الثالثة ولا أصل إلي مسكني القديم قبل الرابعة والنصف، أما اليوم وصلت في تمام الثالث والنصف ودون عناء، فارق كبير وسعيد جدا.
- جميل جدا، ماذا تعمل؟
- أنا كاتب روائي وصحفي وأعمل في أحد دور النشر القريبة من هنا
- رائع، أنا فنانة تشكيلية وأسوق أعمالي أيضا قريبا من هنا في جاليري (معرض فني) ملاصق للبنك الأهلي.
وصمتت وألتمع في عينيها حزن باد وأعقبت قائلة:
- وتلك هي مأساتي
وصمتت مرة أخري وعندما هممت بسؤالها ولم كان المصعد قد توقف أمام شقتها، فلوحت مودعة وهي تقول:
- لا تقلق للحديث بقية
لوحت لها واكملت الصعود؛ دخلت إلى شقتي وفجأة وقعت عيناي على ساعة الحائط كانت تشير إلى الرابعة؛ نظرت إلى ساعة معصمي كانت أيضا كذلك! هل استغرق الصعود إلى هنا نصف ساعة كاملة!! أم إني قد شردت بعقلي قبل أن أفتح الباب، لا هذا لم يحدث وتذكرت المرة الأولى في الصباح عندما تأخرت على سيارة الأجرة، أوعزت الأمر إلى فقداني التركيز من فرط الإجهاد أثناء فترة انتقالي.
انشغلت بإعداد طعام الغذاء وبعده القهوة التي ادمنها؛ ثم تفرغت لبعض القراءة والكتابة، مر الوقت وفي النهاية دخلت إلى مخدعي ولكن انتابني الأرق؛ اخذت في التفكير في عدة امور انتهت بتلك المرأة هناك شيء غريب بها لا ادرى كنهه، ولا أعلم ما الذي جذبني إليها فعند عودتي كنت أتمني لقاؤها مرة أخرى.
في صباح اليوم التالي توقف بي المصعد كما حدث بالأمس عند الطابق الخامس ودخلت "ليلي" كما رأيتها أول مرة بهدوئها ولمحة الحزن في عينيها برغم الإبتسامة على شفتيها والأغرب أنها كانت بنفس الملابس ونفس حافظة الأوراق الجلدية الكبيرة بادرتها قائلا:
- صباح الخير، هل معتادة الخروج في نفس هذا الموعد دائما
- صباح النور، ليس دائما ولكن اخرج مبكرا هذه الأيام لرسم بعض اللوحات على الطبيعة، لا احب المكوث في المنزل كثيرا و وخاصة لا يوجد من يفهمني وليس لي اصدقاء
نظرت خلسة سريعا إلي يدها فلاحظت عدم وجود أي خاتم يدل على انها مرتبطة، فقط كان في جيدها قلادة ذهبية ذات شكل مميز ولا شيء آخر، ثم قلت :
- هكذا هو الحال دائما مع الفنانين أنهم يرون الحياة بمنظور آخر؛ وانت فنانة رقيقة الحس
- اليس الكتابة نوع آخر من الفن؟ لربما هذا ما جعلنا نتقارب سريعا ونتحدث وليست الجيرة وحدها؛ ولكن ليس هذا ما أقصده، ولكن عانيت طوال حياتي أنه لا أحد يتفهمني وخاصة الأهل، كنت طوال حياتي اهوى الرسم ولم يكن هذا مشكلة إلي أن جاء يوم نجاحي في الثانوية العامة بمجموع كبير، كان والدي يريد أن أصبح طبيبة مثله وأن أتقدم بأوراقي إلى كلية الطب وهنا شعرت أن حياتي كلها وإرادتي تسلب مني كان الرسم كل حياتي أحد فيه ما فقدته من الأهل والأصدقاء، كان ملاذي الوحيد في هذا العالم القاسي، أعبر بفرشاتي عن ما عجز عنه لساني، فاتخذت حقي وعاندت والدي وتقدم إلي كلية الفنون الجميلة، وهنا كانت الطامة الكبرى وتبدل حال والدي من الحنان إلى القسوة ومن الرحمة إلى الحرمان واستمر هذا سنوات طويلة ختي تخرجت وايضا نلت بعض الشهرة ولكن هذا لم يفت عضده أو يلين عريكته، كان دائم الإهانات صباحا ومساء.
- الم يكن هنا احد من الأقارب يحاول أن يقارب وجهات النظر أو والدتك على الأقل
- حاول الكثير ولكن كل هذا لم يزده إلا عنادا فقد شعر أنني اتحداه وهذا لم يحدث ابدا فلا يعلم كم احبه واقدره، اما والدتي فقد اتخذت جانبه كانت تخشى عليّ..
وانهمرت دموعها تبلل وجنتيها الرقيقتين.. وتوقف المصعد فانطلقت تهرول خارجه؛ وعندما هممت باللحاق بها ووجدت قلادتها قد سقطت على أرضية المصعد فتناولتها وحين خرجت لم أجدها اختفت تماما، وقفت لحظات افكر فيما حدث ، قلبت القلادة في يدي وبينما أفعل فُتحت كان بداخلها صورة لليلى تقف بين والديها وهي طفلة فكانت تشبهها إلى حدٍ كبير ثم أغلقتها حينما نظرت إلى ساعتي شعرت بالذهول فقد كانت تجاوزت الثامنة والنصف، رباه؛ مرت نصف ساعة كاملة منذ خروجي من باب المنزل!.
ذهبت إلى عملي وكل فكري مشغول بها كنت أشعر إني عاجز عن فعل أي شيء وتمنيت أن ألقاها عند عودتي علي الأقل حتى أعطيها قلادتها ولكن هذا بكل أسف لم يحدث فتركت الأمر حتى الصباح كالعادة، وحين هبط المصعد لم يتوقف عند الطابق الخامس ولكني نظرت فوجدتها واقفه أما شقتها تنظر لي، ثم تابعت النزول إلى الطابق الرابع نظرت ايضا وجدتها واقفه وتكرر الأمر في كل طابق اهبط إليه أجدها واقفه ،حتي توقف المصعد، أسقط في يدي ولم أدرِ ما أفعل ولكن ضغطت زر المصعد صاعدا إلى الطابق الخامس ولم أجدها وقفت أمام شقتها لحظات ثم عقدت العزم ان ادق الجرس على الأقل حتي أعيد لها قلادتها، ولكن لم أسمع صوت الجرس فحاولت دق الباب فإذا هو موارب، دققت مرة أخرى ومرات ولكن لا مجيب فدفعني الفضول لفتح الباب مناديا، وهالني ما رأيت.
كان المنزل صامت كالقبور مظلم إلا من بصيص ضوء يأتي من خلفي من فتحة الباب لأجد الأثاث كله مغطى بملاءات بيضاء يعلوها الغبار ونسيج العناكب يعلو المكان، انتابني الفضول أكثر واعتراني القلق فأخذت في التجول أكثر إلى إحدى الغرف اخذت أجول فيها بناظري وفجأة سمعت في الخارج صوت القرءان يأتي من مذياع يصاحبه صوت صراخ وعويل فخرجت من الغرفة لأري المشهد قد تبدل تماما وامتلاء المكان بسيدات تتشح بالسواد وبعض الرجال يحاولون من تهدئتهم ببعض من النصح او الوعيد، لم يحاول أحد أن يسألني من أنت أو يبدي اهتمام ، وقعت عيناي على سيدة تشبه من كانت صورتها في القلادة فتوقعت أنها والدة "ليلى" نظرت الي لحظة ولكن لم توليني أي اهتمام أيضا ولكن نظرت إلى صورة معلقة على الجدار فنظرت كانت صورة ليلى وعلى ركن منها برز شريط حداد أسود ودويت صرخة.
لكنها كانت صرخة صادرة من حنجرتي أنا ومن داخل غرفة نومي، كان كابوس رهيب؛ استعذت بالله وقرأت بعض آيات القرءان ،حينما نظرت إلى عقارب المنبه بجواري كانت تشير متجاوز الثانية عشر بقليل ولكن لم أتردد شربت قليل من الماء وارتديت روب ثقيل وخرجت فتحت باب المصعد وهبطت إلى الطابق الأرضي وبداخلي كم كبير من الرهبة وكم أكبر من الفضول وحينما مررت بشقتها انتابني الخوف قليلا ولكنها لم تظهر، طرقت حجرة البواب وكنت اعلم انه لا ينام قبل الفجر، فتح في دهشة قائلا:
- خيرا يا استاذ آدم
- آسف يا عم محمد سؤال فقط ، من الذي يقطن في الطابق الخامس شقة ( ٥٠٣ ) التي تقع تحت شقتي مباشرة
- هل تقصد شقة الدكتور يوسف عبد القادر، لا يوجد بها احد من فترة طويلة لقد تركوها وانتقلوا بعد حادثة ابنتهم المهندسة "ليلى" رحمة الله عليها
سمعته وكأنما عيناي قد برزت من محجريهما وفتحت شفتاي في بلاهه ثما تمالك نفسي بعد لحظات وهو يقف صامتا وسألته:
- أي حادثة؟
- صدقني يابيه احنا ليس لنا أي ذنب كان المصعد معطل وقمنا بوضع لافته على كل الطوابق، ولكن المهندسة "ليلي" كانت خارجة في يوم تجري لم تنتبه وفتحت باب فسقطت في بئر المصعد وتوفيت.
صمت فترة مفكرا ثم سألته مرة أخرى:
-هل معك عنوان الدكتور "يوسف " الجديد
- نعم ، دقيقة واحدة اكتبه لك، فقط اسمح لي لماذا قد أستطيع مساعدتك
- بعض أقاربي عائدون من الخارج واريد استئجار تلك الشقة لهم
تغيب لحظات ثم عاد بالعنون مكتوبا في ورقة وشكرته واتجهت صاعدا إلى شقتي، وحينما فتحت باب المصعد وجدتها تقف بداخله ؛ تراجعت فجأة من هول المفاجأة هذه المرة ثم تمالك نفسي واقتربت لا أدرى لماذا لا اخافها ولا لماذا تعاطفت معها قلت لها:
- أنت ..
- نعم ميته
- ولماذا أنا
- لا أعلم، مضت خمس سنوات وأنا عالقة حائرة أحاول الإتصال بأي أحد ، حتي رأيتني والقيت تحية الصباح، لم أصدق ولم اجد اي كلام كنت قد أعدته سابقا للحظة كهذه
- هذا يفسر سر تلك النظرة التي رأيتها على وجهك وردة فعلك حينها، ولكن ما لذى جعلك عالقة هكذا، ولماذا كنتِ تحاولين التواصل مع احد خلال سنوات طويلة
- أولا الزمن في عالمي نسبي فما يمر عليك في عامٍ كامل قد يمر عليّ في لحظات، ثانيا لم أعرف الراحة؛ كنت أريد توصيل رسالة إلى أبي وأمي فهما ايضا لا يعرفان الراحة. كنت كالعادة تشاجرت مع أبي واستمرت اهاناته وعندما فاض بي الامر فتحت باب الشقة وخرجت بينما هو يحذرني أني لو خرجت لا أعود ثانية، هما اعتقدوا اني فتحت باب المصعد والقيت بنفسي عامدة منتحرة وهذا ما يجعلهم يعيشون في عذاب دائم شاعرين بالندم وأنهم السبب؛ وهذا لم يحدث أنا حقا احبهم، كل ما في الأمر أنني خرجت والدموع تملأ عيوني أضع كفي على وجهي فلم انتبه للورقة الموضوعة وفتحت الباب ودخلت لأقع في بئر المصعد وكانت النهاية، تلك هي الحكاية. والان هذه مهمتك لا أعرف كيف تشرحها لهم كي يرتاحوا واجد راحتي ومعك قلادتي أعطيها لأمي.
واغرورقت عيناها بالدموع وكأنما تسربت إلى عيوني أيضا حتى قلت بحزن :
- هل لن اركِ ثانية
- لا أعتقد، ليتني قابلت من قبل، لكانت أمور كثيرة قد تغيرت، ربما التقينا من قبل في عالم آخر، ولربما نلتقي مرة اخرى في حياة اخرى.

وفجأة وجدت نفسي اقف وحيدا .. قد اختفت.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى عنوان والديها، فتحت لي إمرأة مسنه في ابتسامة وجلة برغم طابع الحزن المرسوم على وجهها، عرفت على الفور انها والدتها من الصورة في القلادة، وحين سألتها عن الدكتور يوسف وجدته يقف بجوارها فلم أعرف كيف أبدأ ولكن فجأة وجدتني أمد يدى بالقلادة إليها، فصرخت :
- هذه قلادة ابنتي، من أين أتيت بها، لم تكن تنزعها ابدا ولم نستطع العثور عليها حين ...
وأجهشت بالبكاء حتى انبرى الدكتور "يوسف" وتقدم نحوي يدعوني للدخول، وبعد أن حكيت كل ما حدث والذى لا يصدق لولا القلادة وبعض التفاصيل التي لا يعلمها أحد، سادت موجة من البكاء بين الجميع تتخللها عبارات الرحمة والشكر، وبعد فترة استأذنت للانصراف مع وعد بالزيارة مرة أخرى.
وفي طريق عودتي إلى المنزل لا أدري لماذا توقفت عند "الجاليري" الذى كانت تتعامل معه، وحين سألته هل أجد بعض اللوحات للفنانة " ليلي يوسف" ابتسم مرحبا وأبدى إعتذار فقد بيعت جميعها، وفجأة نظر لي بدهشة محدقا فاغرا فاه! ثم قال لحظة واحدة وتغيب قليلا ثم أتى بإحدى اللوحات قائلا:
- هذه اللوحة تركتها هنا وقالت لا ابيعها ولكن أهديها لمن جاء يسأل عنها ويشبه من كان في اللوحة
وحين ازال عنها الغلاف الورقي تطايرت الأوراق وفاحت في الاجواء رائحة الياسمين، نظرت خلفي فلم أجد أحد وحين نظرت إلي اللوحة اعتراني الذهول فقد كانت صورتي أنا.
" تمت"
بقلم / مدحت صلاح

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: